هل الله جدير بالثقة حتى حين لا نفهمه؟ – اسيل شومر

هل الله جدير بالثقة حتى حين لا نفهمه؟

هل الله جدير بالثقة حتى حين لا نفهمه؟

منذ سنة خسرت امي معركتها الاخيرة مع المرض وخسرت انا صديقتي المفضلة, قدوتي, حبيبة عمري وسندي الاكبر. كان من الصعب جدا ان اراها تذبل امامي شيئا فشيئا واعجز عن فعل اي شيء لابقائها معنا لو لايام. كان مجرد تخيل ايامي المقبلة بدونها كالزلزال الذي يمحي بلحظة كل اساس وكالعاصفة التي تأخذ معها كل شيء. الكل حولي بدا خارجا عن السيطرة وبلا معنى و في عمق هذا الالم تملّكني السؤال: هل الله جدير بالثقة حتى حين لا نفهمه؟

حيثما ذهبتِ اذهب

اذكر انه حين كانت امي ترفض مرافقتي اياها الى المستشفى كنت امازحها بمقولة راعوث لحماتها: ” لا تلحي علي ان اتركك وارجع عنك لانه حيثما ذهبتِ اذهب وحيثما بتِّ ابيت.شعبك شعبي والهك الهي”(را 16:1).وحين اشتدت الامور صعوبة وجدت هذه القصة تجيبني على سؤالي وحيرتي. يروي سفر راعوث انه حين حدثت مجاعة في ارض كنعان انتقل رجل يدعى اليمالك وعائلته الى ارض مواب وهناك تزوج ابناه بنساء وثنيات, راعوث وعرفة. كان زواج راعوث وعرفة من ابني اليمالك اول لقاء لهما مع الله و لكن ايضا بداية لفترة مليئة بالمصائب, فلم ترزقا بابناء طيلة عشر سنوات وبعدها مات كلا ازواجهما تاركين وراءهما اما ارملة وثكلى وارملتين شابتين ليقاسوا اسوأ ظروف قد تصل اليها امرأة في تلك الفترة. هنا تجد راعوث وعرفة نفسهما امام مفترق طرق, اما العودة الى اهلهما والهتهما الوثنية وبدء حياة جديدة اكثر راحة وامانا اما مرافقة حماتهما الى المجهول في ارض كنعان حيث يُعبَد الله. بينما اختارت عرفة ان تدير ظهرها لحماتها وتعود لاهلها والهتها, لم تفكر راعوث بنفسها بل اصرت ان تبقى امينة لالهها ولحماتها وان لا تتركها تجابه الصعاب لوحدها مهما كلفها الثمن ورغم كل ما عانته. كان من الممكن ان تلوم الله وتتركه فمنذ ان عرفته لم تفارقها المصائب, الا انها وجدت ان الحياة مهما كانت مرة, تحلو قرب الله ومهما كانت حلوة فهي مرة بدونه. وفي ارض كنعان تتزوج راعوث من بوعز وتنجب عوبيد وهنا ينتهي السِفر. تبدو قصة راعوث ظاهريا غير مفهومة وخالية من المعنى. الم يكن الله قادرا على ان يعطيها نسلا من زوجها الاول؟ الم يستطع ان يمنع وفاته؟ على الارجح ان راعوث ايضا لم تفهم طيلة حياتها لماذا كل هذا الشقاء. لكن الامور تتوضح حين نقرأ اخر اية في السفر: “وعوبيد ولد يسّى, ويسّى ولد داود” (را 22:4). لم يمنع الله الضيقات عن راعوث لكن حاشا له ان لا يخرج منها خيرا. كانت خطة الله لراعوث اعظم من خطتها لنفسها فقد اظهر بها ان نعمة الخلاص والقرب منه ليست حكرا على شعب معين بل عطية لجميع الامم ولكل من يؤمن. لم يشأ الله ان يعيش نسلها في ارض وثنية ويهلك لعدم معرفته له بل اختارها ليعطيها اعظم شرف وهو ان يكون المسيح نفسه من نسلها, فنحن نعلم اليوم ان المسيح وُلد من نسل داود. لم تعش راعوث حياة مريحة لكنها عاشت حياة مؤثرة حتى بعد الاف السنين من وفاتها لانها اختارت في كل مرحلة ان تكون امينة لله.

ليكن لي كقولك

لم تكن راعوث المرأة الوحيدة في نسب المسيح التي جعلت في قلبها ان تتبع الله في كل الظروف اذ نرى القديسة المطوبة مريم تقبل من الله ان يتمم مشيئته العليا لخلاص البشرية من خلالها رغم كل ما سيحمله هذا الدور من الم. نراها منذ البداية تعلم انه سيجوز في نفسها سيف (لوقا 35:2) ولكنها اتخذت موقفا حاسما منذ البداية “هوذا انا امة الرب, ليكن لي كقولك” (لوقا 38:1). كان هذا السيف رؤية ابنها الذي لم يفعل خطيئة يموت على الصليب متحملا اقسى انواع الالم. اذ نظرنا الى الصليب يبدو المشهد ظاهريا خاليا من المعنى,عشوائيا وخارجا عن السيطرة فجميع رجال الدين والشعب اتفقوا على صلب المسيح و حتى الشيطان ايضا اراد صلب المسيح! لكن المسيح اوضح ان شيئا من هذا لم يكن ليحدث دون سلطان الله وسماحه حين قال لبيلاطس “لم يكن لك علي سلطان البتة, لو لم تكن قد اعطيت من فوق” (يوحنا 11:19). شعر التلاميذ بالهزيمة وخيبة الامل و ان كل احلامهم تحطمت. لقد مات المسيح في الثلاثينيات من عمره ,الم يكن من الافضل لو عاش على الارض اكثر سنوات واجرى اكثر معجزات وحلّ اكثر ضيقات؟ لماذا لم يحررهم المسيح من عبودية الرومان كما كانوا يرجون؟ لماذا لم يخلص نفسه وينزل عن الصليب كما خلص كثيرين؟ لكن ما بدا ضعفا,وخارجا عن السيطرة ومخيبا للامال واستفحالا للشر كان خطة الله العظمى لخلاصنا. كم كانت البشرية كلها ستخسر لو ان المسيح ارتضى الدور الصغير الذي حدده التلاميذ له وعمل حسب توقعاتهم. كان المسيح فوق كل توقعاتهم فهو لم يجىء ليؤسس مملكة فانية لشعب معين في عالم مُفسَد لا رجاء فيه وبانظمته البشرية الناقصة بل جاء ليؤسس مملكة سماوية ابدية تشمل جميع من يؤمن به ولا مكان فيها للفساد. جاء ليخلص العالم من اعظم مشكلة فيه وهي مشكلة الخطيئة.

puzzle

لذلك فلنكن كل حين متمثلين بربنا وحبيبنا يسوع المسيح الذي لم ينظر الى الم الصليب بل الى مجد القيامة (عبرانيين 12:2). مهما ازداد الشر وبدت الامور عشوائية وخارجة عن السيطرة, لنا بالله اعظم ضمان ان شيئا لا يخرج عن سلطانه فهو الذي يعمل من خلف الستار ليخرج من الجافي حلاوة ومن الصليب قيامة. علينا ان نرى ظروفنا بعدسة الله بدل ان نرى الله بعدسة ظروفنا, فليس هناك حفرة اعمق من ان تصل اليها يده ومع ازدياد الالم تزداد يده اقتدارا. فهو دائما يجري المعجزات ,احيانا تكون المعجزة ان ينجينا من الضيق واحيانا نكون نحن المعجزة حين يغيرنا لنشبه صورة ابنه و ليس هناك شيء اعظم من هذا نخرج به من هذا العالم. قد تبدو حياتنا كقطعة “puzzle” داكنة لا معالم لها وغير مفهومة, لكن الله وحده يرى الصورة الكبيرة بكل معناها وجمالها. ليس هناك استثمار افضل لقطعتنا من ان نسلّمها له كما هي لتكون جزءا من صورته الرائعة ولتخدم مشيئته الصالحة لهذا العالم. لا تضع قلبك في هذا العالم الفاني الذي لا يُشبِع ولا ترضَ بالدور الصغير الذي وضعه لك منغمسا بثرى شهواته وهمومه بدل النظر الى الاعالي , بل خذ دورك بخطة الله العظيمة وعش لما هو ابعد من الحياة نفسها, عش للابدية! الرب وحده خيرنا وليس سواه يشبع القلب. الرب حنان ورحيم طويل الروح وكثير الرأفة يستحق ان نثق به لانه امين وكل اعماله صالحة حتى وان كنا لا نفهمها.

بقلم: اسيل شومر