أيام الخليقة السبعة – الجزء الأول

أيام الخليقة السبعة

أيام الخليقة السبعة

قد تكون أشهر أربع نغمات تفتتح سيمفونيّة كلاسيكيّة هي نفسها أول أربع نغمات من السيمفونيّة الخامسة لبيتهوفن. أمّا في مجال الأدب والكتابة, فقد تكون أشهر بضعة كلمات تستهلُّ كتابًا أو مقالة هي نفسها أول كلمات سفر التّكوين في العهد القديم, ألا وهي: “فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ…”. هذه هي الكلمات ذاتها الّتي قرأها ثلاثة روّاد فضاء أمريكيون على مسامع العالم ليلة عيد الميلاد في عام 1968 داخل المركبة الفضائيّة “أبولو Apollo 8”, بعدما نظروا إلى الكرة الأرضيّة من الفضاء الخارجي, حيث تمكّنوا من أن يكونوا أوّل من يدور حول الجانب “المظلم” للقمر.

نصٌّ واحدٌ, تفسيرات عديدة

مع روعة قصّة الخلق في الإصحاح الأوّل من سفر التّكوين, إلّا أنّه توجد تفسيرات عديدة ومختلفة لها؛ لا بل حتّى كُتُبًا عديدة قد كُتِبَت لتُعَلِّق وتحاول أن تشرح ما يحمله هذا النّص الوجيز من معانٍ التي لربّما يكون قد قصدها الخالق. وإن دلّ ذلك على شيءٍ, فهو يدلّ على فهمنا الخاطئ لهذا النّص. فبعض المؤمنين يؤمنون بالمعنى الحرفي للخليقة, غير مصدّقين النّظريّات العلميّة بشأن نشوء الكون والتي تنصّ على أن الكون قد تكوّن قبل حوالي 13.7 مليار سنة, مُعتَقِدين أنّها مخالِفة لكلمة الله. البعض الآخر يقول بأنّ المعنى مجازي إلى حدٍّ ما, وعلينا تبنّي النّظريّات العلميّة بهذا الشأن، وهنالك مجموعة أخرى رفضت الإيمان المسيحي بادّعاء أنّ الكتاب معارض للعلم. فأيّهم على حقّ؟ وكيف يمكن أن نفسِّر قصّة الخليقة بطريقة سليمة؟

الكتاب المقدَّس وكتاب الطّبيعة: تناغُم تامّ أم تناقُض مُطلَق؟

مع بداية الثّورة العلميّة في القرن السّابع عشر, آمن العديد من العلماء بوجود خالق ذكي كان قد خلق هذا الكون, وآمنوا أيضًا بأنّ هذا الخالق كان قد كتب كتابين: كتاب الطّبيعة (العِلِم) والكتاب المقدّس. لذلك افترض العلماء وقتها وجود تناغمًا بين كتاب الطّبيعة وكتاب الله, كونهما ذوي نفس المؤلّف. مثلًا, كتب جاليلو Galileo في رسالته إلى دوقة توسكانا آنذاك – الدّوقة كرستينا – ما يلي:”بعد أن توصّلت إلى استنتاجات أكيدة في مجال الفيزياء, علينا استعمال هذه الاستنتاجات كالأدوات الأنجع في محاولة فهمنا للكتاب المقدّس…” واقتبس بعدها جاليليو في ذات الرّسالة ترتوليان (155-240م, أحد أوائل المدافعين عن الإيمان المسيحي): “ربّما هذا ما قصده ترتوليان بهذه الكلمات:
“نستنتج بأنّ الله قد عُرِفَ أوّلًا من خلال الطّبيعة, وبعدها, بشكل أخصّ, من خلال العقيدة؛ أظهر ذاته في الطّبيعة من خلال أعماله, وأظهر عقيدته من خلال كلام الكتاب المقدّس””.
لقد شَرَحَ جاليليو برسالته هذه موقفه بما يخصّ عدم التّماشي التّام بين مراقبته الكواكب في نظامنا الشّمسي وبين ما يقوله الكتاب المقدّس في بعض المواضع التي يذكر فيها وصفًا لحركة الشّمس وكوكب الأرض. يكرّر جاليليو في هذه الرّسالة عدّة مرّات إيمانه بالكتاب المقدّس وبصحّة كلامه من جهة، وبأنّنا من جهة أخرى, علينا الاستعانة بالعلم ومحاولة فهم قصد الكتاب حينما يتطرّق للحديث (ولو بشكل وجيز) عن ظواهر طبيعيّة, كدوران الكرة الأرضيّة حول الشّمس (أو عدم دورانها). أي أنّه تناقض كهذا إنّما هو فقط تناقض ظاهري, وأحد وظائف العلم هي مساعدتنا في فهم نصوصًا معيّنة في الكتاب المقدّس.
يدّعي بعض الملحدون والمشكِّكون بمصداقيّة الكتاب المقدّس بأنّه يحتوي على عبارات تناقض العلم, وذلك لإنّهم يفسّرون هذه العبارات تفسيرًا حرفيًّا, كما يفسّر بعضهم أيّام الخليقة على أنّها أيّام عاديّة ذات 24 ساعة, وعلى أنّ الكتاب المقدّس يعارض نموذج ترتيب الكواكب في مجموعتنا الشّمسيّة المتّفق عليه والّذي ينصّ على أنّ الأرض تدور حول الشّمس الثّابتة. لكن هل بالفعل هذا ما يقصده الكتاب؟
قبل أن نتحدّث عن التّفسيرات المختلفة لقصّة الخليقة في الإصحاح الأوّل من سفر التكوين, دعونا أوّلًا نتذكّر قصّة من التّاريخ ستساعدنا على التّوصُّل إلى فهم أوضح لقصّة الخلق.

هل تدور الأرض فعلًا؟ درس من التّاريخ

حتّى القرن السّابع عشر, كان الإعتقاد العامّ بخصوص الكرة الأرضيّة هو أنّها ثابتة, وبأنّ الشمس وباقي الكواكب تدور حولها. فقد ادّعى الفيلسوف اليوناني أرسطو Aristotle في القرن الرّابع قبل الميلاد بأنّ الأرض ثابتة, وبقي هذا الإيمان الخاطئ بشأن ثبات الأرض قائمًا حتّى القرن السّابع عشر, بالرّغم من أنّه كان أريسطارخوس السّاموسي Aristarchus of Samus قد قدّم سنة 250 ق.م نموذجًا آخرًا لترتيب الكواكب في الفضاء, وادّعى من خلاله بأنّ الأرض تدور حول الشّمس, وبأنّ الشّمس ثابتة. كان الكَنَسي والعالِم البولندي كوبرنيكوس Copernicus قد قدّم نموذجًا مشابهًا لنموذج أريسطارخوس, والذي قد نُشِرَ أخيرًا قُبيل وفاته سنة 1543م.
لكن مع محاولة الأخيران لدحض النموذج الأرسطوطلياني, إلّا أنّه لم يتمّ الإطاحة به حتّى القرن السّابع عشر. السّبب الأوّل هو طرح العديد من الأسئلة البديهيّة ،والتي قد تساءلها أرسطو، تشكّك بمصداقيّة نموذج “الأرض المتحرّكة” مثل: لماذا لا نشعر برياح شديدة إذا كانت تدور الأرض بالفعل؟ ولماذا عندما نرمي حجرًا إلى الأعلى يسقط مكانه, وليس بضعة أمتارٍ إلى الخلف؟

أمّا السّبب الثّاني, هو أنّه في مواضع مختلفة في الكتاب المقدّس, يبدو وكأنّ الكتاب ينصّ على أنّ الأرض ثابتة والشّمس تدور:
1) ٱرْتَعِدُوا أَمَامَهُ يَا جَمِيعَ ٱلْأَرْضِ. تَثَبَّتَتِ ٱلْمَسْكُونَةُ أَيْضًا، لَا تَتَزَعْزَعُ. (أخبار الأيّام الأوّل 30:16)
2) اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ. لَبِسَ ٱلْجَلَالَ. لَبِسَ ٱلرَّبُّ ٱلْقُدْرَةَ، ٱئْتَزَرَ بِهَا. أَيْضًا تَثَبَّتَتِ ٱلْمَسْكُونَةُ. لَا تَتَزَعْزَعُ. (المزامير 1:93)
3) ٱلْمُؤَسِّسُ ٱلْأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا فَلَا تَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلْأَبَدِ. (المزامير 5:104)
4) …لِأَنَّ لِلرَّبِّ أَعْمِدَةَ ٱلْأَرْضِ، وَقَدْ وَضَعَ عَلَيْهَا ٱلْمَسْكُونَةَ. (صموئيل الأوّل 8:2)
ليس هذا فقط, بل يبدو وكأن الكتاب المقدّس يقول أنّ الشّمس تدور, وليس فقط بأنّ الأرض ثابتة:
5) وَٱلشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَٱلشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ. (الجامعة 5:1)
فيبدو أنّ نموذج ترتيب الكواكب الّذي قدّمه أرسطو يتماشى مع ما يقوله الكتاب, ظاهريًّا على الأقلّ. لكن, وبالرّغم من الآيات السّابقة والواضحة بهذا الصّدد, إلّا أنّه يؤمن غالبيّتنا, إن ليس جميعنا, بأنّ الأرض تدور حول نفسها وحول الشّمس. ليس ذلك فقط, إنّما نؤمن بأنّها تدور بسرعة 67,000 ميلًا في السّاعة.
كيف ذلك إذًا, أنّنا نفهم الآن أنّ النّص في الآيات السّابقة لم يكن يقصد المعنى الحرفي للكلمات؟

سنحاول الإجابة عن هذا السّؤال الهامّ, في الجزء الثّاني من سلسلة المقالات هذه, والتي نأمل أن تقدِّم لنا استنارات ستساعدنا في فهم قصّة الخلق بشكل أوضح.

بقلم: بشارة سَكَس

المصادر:
1. Seven Days That Divide the World: The Beginning According to Genesis and Science | John C. Lennox
2. http://www.stephenhicks.org/wp-content/uploads/2013/03/Galileo-Letter-to-Christina-text-1615.pdf
3. مصدر الصورة – ويكيبيديا