نقد نظرية الأخلاق النسبية (الجزء الأول)

نقد نظرية الأخلاق النسبية (الجزء الأول)

نقد نظرية الأخلاق النسبية (الجزء الأول)

من أين أبدأُ نقديَ لنظريّة الأخلاق النسبية ؟ لربّما عليّ أوّلًا تعريف ما هو القصد بالأخلاق النّسبّية. إنّها الفكرة الّتي تدّعي أنّ جميع القيم الأخلاقية تتعلق بمبادئ إنسانٍ أو مجتمعٍ ما، ولا وجود لقيمةٍ اخلاقيّةٍ موضوعيّةٍ حقيقيّةٍ مُنفصلةٍ عن وعي بشر1. هذا يعني انّه قد يُعتبر أمرٌ معيّنٌ شرٌّ في الصّين، لكن في ألمانيا قد يعتبرونه خيرًا، ولا يوجد أيّ امتياز خاصّ لأحد المواقف على الآخر، إذ أنّ جميعها شرعيّة.

مع إختلاف فروع هذه النظرية إلّا أننا نجدها شائعة خاصّة بين جيل الشّباب. فكثيرًا ما نسمعهم يُردّدون عباراتٍ مثل: “أنت تعتبر هذا الأمر شرّ، هذا رأيُك، أمّا بالنّسبة لي فهو خير”. لكن في الواقع، غالبيّة الفلاسفة والمُفكّرين الأكاديميّين المتخصّصين بموضوع الأخلاق (للدقة Meta Ethics) تدعم وجود قيمٍ أخلاقيّةٍ موضوعيّة (حقيقيّة)2، فهم يرون أنّه لمن الغريب أن تكون القيمة الاخلاقيّة متعلّقة فقط برأي الإنسان أو المجتمع، وليس في ذات الأمر (الفعل) أو الموضوع نفسه3. لقد توصّل الفلاسفة لهذه النّتيجة بعد التّدقيق في الأدلّة على صدق نظريّة الأخلاق الموضوعيّة (Moral Realism)، ورفضوا الأدلّة التي يقدمها مناصرو نظرية الأخلاق النسبيّة (Moral Relativism)، إذ رأوا أنّها ضعيفة. ليس ذلك فحسب، بل وجدوا مشاكل جوهريّة تنتج مباشرةً من تطبيق هذه النّظريّة.

في هذا المقال سنعرض بعض الأدلّةِ الّتي يستعين بها أتباع نظريّة الأخلاق النّسبيّة4 وسنناقش مدى قوّتها، وفي المقال القادم سنتكلّم عن المشاكل التي تنتج من هذه النّظرية.

الدّليل الأوّل – التّنوّع الثّقافيّ:

يعتقد البعض أنّ حقيقة وجود ثقافات أخلاقيّة متنوّعة (إن كانت هذه بالفعل حقيقة، سنناقش هذا فيما بعد) يدلّ على أنّه لا يوجد هناك قيم أخلاقيّة موضوعيّة، وبالتّالي جميع القيم هي نسبيّة. ولكن في الحقيقة، هذا ليس استدلالًا منطقًّيا. سأحاول تبسيط الموضوع بإعطاء امثلةٍ. هنالك نظريّات متنوعّة لأصل الإنسان، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد نظريّة واحدة حقيقية. قد يؤمن أحدهم بالنّظريّة “أ” وآخر بالنّظريّة “ب”، لكن التنوع بحدّ ذاته لا يشهد على أنّ الأمر نسبيٌّ، أو انّه لا توجد نظريّة واحدة موضوعية حقيقية.

التنوع

التنوع

يبدو أنّ هنالك افتراضٌ مخفيّ الّذي يؤمن به بعض مؤيّدي هذا الدّليل وهو: “إن كانت هناك قيم أخلاقيّة موضوعيّة، فلن يكون هنالك تنوّع بالثّقافات الأخلاقيّة”. بكلماتٍ أُخرى، التّنوّع موجود بسبب عدم وجود القيم الأخلاقيّة الموضوعيّة، ولكن هذا خطأ مَحض. من غير المنطقيّ أن يُفسَّر التّنوّع بهذه الطّريقة، فمثلًا البرازيليّون يحبون لعبة كرة القدم، في باكستان يحبون لعبة الكريكت وفي مونچوليا متحمّسون لسباق الأحصنة. من غير المنطقيّ تفسير هذا الّتنوّع لغياب “لعبة موضوعيّة” أسمى يلعبها الجميع! بل من المتوقّع وجود أسباب أخرى تفسّر التّنوّع مثل العادات، التّقاليد، الجهل، الخوف، مصالح شخصية، وغيرها من أسبابٍ معقولة إضافيّة. لذا التّنوّع بحدّ ذاته لا يدل بالضّرورة على صِدق نظريّة الأخلاق النّسبيّة.

الدّليل الثّاني – صعوبة الدّفاع عن القيم الأخلاقيّة الموضوعيّة:

هنالك من يدّعي أنّ نظريّة الأخلاق الموضوعيّة فقدت مِصداقيّتها ولا يمكن الدّفاع عنها، وبالتّالي فإنّ نظريّة الأخلاق النِّسبيّة هي أفضل بديل. البعضُ يعتقد أنّ القيم المَوضوعيّة تعتمد بوجودِها على أوامر إلهيّة، وبما أنّ شعبيّة الدّين تنقُص (بحسب الادّعاء)، هذا يؤدّي لزعزعة أساسات النّظريّة الموضوعيّة، على الرّغم من مساعي فلاسفة الأخلاق العمالقة مثل كانط، مِل5 وغيرهم (من غير المؤمنين أيضًا) لدَعم الأخلاق الموضوعيّة.

لرُبّما يكمُن التّحدّي في أنّ مؤيّدي نظريّة الأخلاق الموضوعيّة يؤكّدون أنّه هنالك أفكار أو قيم أساسيّة غير قابلةٍ للاختزال، والمشكلة (بحسب الادّعاء) هي أنّه يصعُب برْهنَتها لمَن لا يتبنّى نفس القِيَم الأساسيّة. فمثلًا، قد يحاول شخصٌ ما إثبات أنّ ضَرب الرّجل لامرأته أمر شِرّير. هذا الأمر يتأسّس على أنّ للمرأة قيمة وحُقوقٌ مساوية للرّجل. لكن كيف يُقنِع هذا الشّخصُ رجلًا اخر يختلف معه على هذا الأساس، ويدّعي أنّ “شرف العائلة” أساس أهمّ من حقوق المرأة؟ أو كيف يتمّ إقناع الآخر بأنّ حرّيّة الإنسان وحقوقه هما أمران أساسيّان خَيِّران، إن كان الآخر يتبنّى فكرًا فاشيًّا يُمجّد سلطة الدّولة الّتي تفرض الخنوع على مواطنيها؟

بحسب رأيي الدّفاع عن القِيَم المَوضوعية ليس بهذه الصّعوبة6، ولكن حتى لو فشل المُدافِع في بَرْهنَة وجود القِيَم الأخلاقيّة الموضوعيّة، هذا لا يعني بالضّرورة أنّ نظرية الأخلاق النّسبيّة صحيحة، فهنالك نظريّات أخلاقيّة عديدة أُخرى، كما يظهر في الصّورة أدناه، وقد تكون أيّا منها صحيحة ونظريّة الأخلاق النّسبيّة على خطأ. ما نتوقّعه منَ اتِّباع نظريّة الأخلاق النِّسبيّة هو تقديم دليلًا قويًّا يدعم موقفهم مباشرةً وليس مجرّد عَرْض ادّعاء لضعف دفاع نظريّة أُخرى.

نظريات اخلاقية - meta ethics

نظريات اخلاقية – meta ethics

الدليل الثّالث – الحقائق النِّسبيّة

هذا الدّليل متطرّف بعض الشّيء إذ أنّه لا يدّعي أنّ القِيم الأخلاقيّة نِسبيّة فحَسب، بل أنّ كلّ الحقائق بحدّ ذاتها نِسبيّة أيضًا. لا يوجد حقائق موضوعيّة بتاتًا! أي تحديد صحّة أمر ما أو عدم صحّته يتعلّق برأي الشّخص فقط وليس بالعِلم، المنطق أو الواقع. لكن هذا الأمر غريب، فصِدْق نظريّةٍ مُعَيّنة بموضوع أصل الإنسان، مثلًا، لا يعتمد على رأي إنسان، لأن الرأي لن يقرّر ما حدث فعلًا بالماضي!

لن أُطيل الحديث في هذه النّقطة لأنّها برأيي غير واقعيّة. ولكن لنلقي نظرةً سريعة إلى الافتراض أنّ “جميع الحقائق نسبيّة”. هذه الجملة لا يمكن أنْ تكون صحيحة لأنّها تُناقِض ذاتها، فهي تدّعي حقيقة وهي “أنّ جميع الحقائق نسبيّة”، ولكن إن كانت هذه الحقيقة (أنّ جميع الحقائق نسبيّة) هي بحدّ ذاتها نِسبيّة، لا يعود هنالك أيّ دافع منطقيّ لتَصْديقها، إذ أحيانًا هي بنفسها تكون على خطأ.

الدّليل الرّابع – تَقَبُّل الآخر (رحابة صَدر)

هذه الحّجة تدّعي أنّ نظريّة الأخلاق النّسبيّة تُشجّع التّواضع وتُوصي بتقبّل الاخر الّذي يعتنق قيمًا أخلاقيّةً مُختلقةً، إذ أنّه من غير المفروض أن يتمّ الحُكم عليه، لأنّه لا يوجد من يملك منظومةً أخلاقيّة أسمى من منظومته. ويزعَمون أنّ فائدة أخرى من تبنّي القيم الأخلاقيّة النّسبيّة هي تشجيع الشّخص على النّقد الذّاتي.

هنالك أسئلة كثيرة حول هذه النّقطة. مثلًا، هل تقبّل الآخر يُعتَبر خير؟ خيرٌ موضوعيٌّ؟! إن كان التقبل خيرا نسبيّا، فنسبة لمن؟ ولماذا عليّ تبني هذا الرأي بالذات؟ هل عليّ أن أتقبّل نظريّات أخلاقيّة فاشيّة أيضًا؟ هل عليّ أن أتقبّل آراء أبو بَكر البغداديّ الدّاعشيّة؟ أضِف إلى ذلك أنّي لا أرى كيف ستؤدّي هذه النّظرية النّسبيّة إلى تقبّل الآخر. من يتقبّل الآخر عليه أن يعطيه قيمة موضوعيّة مساوية له (ولكلّ البشر)، ومن ثمّ ينبع التّقبّل والاحترام تلقائيًّا.

لنلاحظ أيضًا أنّه كَوْن الشّخص يؤمن بوجود قيم أخلاقيّة موضوعيّة، هذا لا يعني أنّه يمتلك أو حتى يعرف كلّ هذه القِيَم بالضّرورة، بل مجرد يؤمن أنها موجودة. لذلك عليه بالدِّراسة، الفَحص، النّقاش، نَقد الذّات وأمور أُخرى كثيرة لِاكتشاف هذه القِيَم الموضوعيّة. بالنّهاية، أعتقد أنّ التّقبل أمرٌ خَيِّرٌ (موضوعيًا) ولكنّه لا يدعم مباشرةً صِدق نظريّة الأخلاق النّسبيّة إذْ أنّ هنالك من لا يتبنّون هذه النّظريّة وفي ذات الوقت يتقبّلون الآخرين.

تلخيص:

كما رأينا، فإنّ الأدلّة الّتي تدعم نظريّة الأخلاق النّسبيّة ضعيفة ولذا لا أرى أيّ سبب منطقيّ يشجّع الشّخص بتبنّي هذه النّظريّة واتّباعها. في المقال القادم سأبدأ بتلخيص المشاكل والانتقادات الأكاديميّة على هذه النظرية، لعلّ القارئ يستفيد من ذلك أيضًا.

بقلم: جورج عبدُه


مصادر الصّور:

  • رابط لصورة الألوان التي بترويسة المقال
  • الرّسم التّوضيحي للـ Meta Ethics مأخوذ من هذا الفيديو الذي يعطي ملخص لنظريات الاخلاقية
  • رابط لمصدر صورة التّنوّع: و رابط لرخصة الاستخدام

 

المراجع

  1. مصدر التّعريف موسوعة الفلسفة على الإنترنت
  2. إبحث عن الـ Moral Realism في هذا الاستفتاء الأكاديميّ 
  3. على سبيل المثال، من غير المعقول أنّ رأي بشر هو الّذي يقرّر إن كانت عمليّة الاغتصاب شرًّا، بل من الواضح أنّ في الاغتصاب ذاته هنالك تعدّي على حقوق الإنسان، انتهاك لقيمته وحريته، وهذا ما يدل على أنّ الاغتصاب شر.
  4. في قسم الأدلّة من نفس المصدر الأوّل وهو موسوعة الفلسفة على الإنترنت
  5. رابط لنظريّة “مِل” الأخلاقيّة
  6. لقد قدّمت في الماضي دفاع عن وجود القيم الأخلاقيّة الموضوعيّة. بعضٌ منه موجودٌ في القسم الثّاني من هذه المحاضرة. وهنالك كُتب ومقالات أكاديميّة عديدة تطرح أدِلّة قويّة تدعم موضوعيّة الأخلاق، بعضها ملخّص (مع ذكر المصادر) بهذا الفيديو باللغة الانجليزية. سأحاول بالمستقبل تلخيص هذه الأدلّة بمقالٍ آخر.