القصة الكبرى – بين الإلحاد والمسيحيّة

القصة الكبرى - بين الإلحاد والمسيحيّة
القصة الكبرى – بين الإلحاد والمسيحيّة

في الكثير من البرامج التلفزيونية، كأمريكا جوت تالنت، نشاهد العديد من المواهب تصعد للمسرح وتفتن المشاهدين، الحُكّام وأحيانا العالم بأسره، لكن هنالك سرٌ مكتوم يساهم في نجاح العديد من الأشخاص هل تعرفون ما هو؟ إنه القصة.

القصة

عادة، وقبل أن يشاركنا المشترك بموهبته، نستمع لقصة حياته (أو لجزء منها)، ويا لعمق التأثير الذي تلعبه هذه القصة على معنى وقيمة أدائه وحتى على ردة فعل الحُكّام والجمهور، خاصة إن استطاعت القصة العظيمة بتحريك قلوب المشاهدين حتى قبل ابتداء العرض. أحيانا كثيرة، يكون الأداء جيدا نسبيا، لكن بوضعه داخل السياق وبعد سماع القصة، يضخم من رونقه إذ تزهر الكلمات والألحان ورودا جديدة ورونقا لما كنّا رأيناه من دون القصة.
فعلى سبيل المثال، أرتشي وليمز سُجن ظُلما في أعنف السجون في أمريكا، وبعد 37 عام أثبتت براءته. حلمه كان أن يُغني وقد حققه على منصة أمريكا جوت تالنت. قدّم جون أغنية “Don’t Let the Sun Go down on me” لإلتون جون وأداءه كان جيدا، لكن السياق الذي وُضع وقصته الشخصية أعطت أداءه بعدا آخر وأبكت الجمهور وبعض الحٌكّام وحتّمت تقدّمه للمرحلة القادمة.

القصة الكبرى

والسؤال هنا، هل هناك قصة أكبر؟ وما تأثيرها على قصصنا الصغيرة؟ هل هناك قصة كُبرى تعيش بها كل البشرية؟ لكي أوضّح فكرتي سأطرح عليكم تجربة فكرية، لربما تكون غريبة على البعض وصعبة التخيّل، لكن أومن بقدرتك عزيزي القارئ. الفكرة هي كالتالي: تخيّل أن لا شيء موجود! لا نباتات ولا حيوانات ولا بشر. أنت غير موجود، ولا بيتك ولا سيارتك ولا أهلك. الكرة الأرضية غير موجودة ولا الشمس ولا النجوم ولا المجرّة ولا الكون كله. عدم بكل معنى الكلمة. لا زمان ولا مكان ولا مادة ولا قوانين فيزياء. حتى الله نفسه غير موجود! لا شيء إطلاقا! فجأة يظهر شيء على شكل فقاعة، وبعد مرور وقت، نتمعن داخل الفقاعة ونرى كوكب كالأرض، وفيه دولة أمريكا ومسرح أمريكا جوت تالنت، يظهر على المسرح آرتشي ليحكي قصته ثم يغني نفس الأغنية، يصفق له الجمهور والحُكّام ويتقدم للمرحلة النهائية ويربح البرنامج وبعد سنة أو حتى عدة قرون، تختفي الفقاعة عن الوجود، لنعود للعدم، كما كُنّا! والسؤال هنا، هل لهذه القصة الكبرى أي تأثير على قصة آرتشي؟ من الصعب إنكار ذلك!

قصة الإلحاد

البعض قد يعتقد أن هذه التجربة الفكرية متطرفة بعض الشيء لكن في الواقع، إن نظرنا للحياة من عدسة إلحاديّة ماديّة 1 سنصل لمفهوم شبيه. عالم الرياضيات والفيلسوف الملحد برنارد راسل لخّص هذه الفكرة وقال أن “الإنسان هو منتوج لمُسببات لم ترَ النهاية التي ستُحققُها. إن أصله، نموه، آماله ومخاوفه، محبته، معتقداته، هم مجرد حصيلة تضارب ذرات عشوائي، وإن جميع الأعمال على مر العصور، جميع التأملات، الإيحاءات ولمعات الإنسان العبقرية في الظهيرة، مُعَدّة للانقراض في موت مجموعتنا الشمسية. وأن معبد إنجازات الإنسان سيُقبر حتمًا تحت أنقاض الكون. كل هذه الأمور لا خلاف عليها فهي شبه مُثبتة حتى أنه لا توجد فلسفة جديّة ترفضها” 2. ألا يشبه انهيار معبد انجازات البشرية فكرة الفقاعة؟

ماذا توقعت أن تكون القصة الكبرى بنظرة إلحادية مادية؟ كل الكون نشأ بدون سيناريو ولا حتى كاتب ونهايته محتومة بموت الجميع. نهاية الرجل الشجاع مثلها مثل الجبان، البطل مثل المجرم، المغتصِب مثل لمُغتصَبَة. نفس المصير مكتوب للجميع. فإن وضعنا قصتنا الصغيرة داخل هذه القصة الكبرى البائسة، هل سيكون لقصتنا أي صدى إيجابي أو أي قيمة حقيقية؟ لا أعتقد ذلك. بعض الملحدين قد يقول أنه قادر أن يعطي حياته معنى وهذا ادعاء غريب لعدة أسباب، أولها أنه في كتاب بدايته صدفة ونهايته موت محتوم، يعتقد هذا أنه بتغيير صفحة سيؤثر على القصة الكبرى! هذه مجرد أمنية غير واقعية، هذا قبل أن نشكك بوجود إرادة حرّة في عالم كهذا.

القصة المسيحية

هل هناك قصة أخرى؟ بالطبع. القصة المسيحيّة تحكي عن كائن واحد كامل الصفات، واجب الوجود، ويتمتع بشركة محبة طاهرة بين أقانيمه الثلاثة. هذه المحبة فاضت، فخلق الإنسان على صورته، كائن عقلاني، حر وقادر أن يحب. هدف الله كان أن يدخل الإنسان إلى علاقة محبة معه. لكن البشر الأحرار أخطأوا والله القدير السامي، إذ أحبنا للمنتهى، أتى إلينا لكوكبنا متأنّسا، لكي يُرينا ما هي المحبة وكيف تُعاش. جاء فاتحا يديه، مستعدًا للصلبِ، غافرًا للذنبِ ومضحيًا للحب. والقصة لا تنتهي بموته ولا حتى بقيامته، بل تستمر لسكناه الروحي في كل من يريد أن يكون جزءا من هذه القصة العظيمة، لا بل أعظم قصة، لكي يُحبّ هو كمّا أحبه الله ويجسّد المحبة في عالم مليء بالأنانية، عدم المبالاة والكراهية. وهكذا تكتسب قصصنا الصغيرة معنى وقيمة، إن تماشت مع قصة محبة الله الذي علمنا أيضا محبة الآخر والتضحية من أجله.

إني أسمع أصدقائي الملحدين يصرخون قائلين: “كون هذه القصة جميلة لا تجعل منها حقيقة”، وهم على حق. أنا لم أدعي أن صدقها ينتج من جمالها. لكن الهدف كان كشف عدميّة الصورة الإلحادية، يأسها وظلمتها الحالكة لعلها توقظ من هو مغموس بها. أمّا حقيقة المسيحية فتعتمد على وجود الله وقيامة المسيح التاريخية، وقد قدمنا العديد من الأدلة على الموضوعين.

رابط لمصدر الصورة

المراجع

  1. أقصد بالنظرة المادية الحادية هي الفكر الذي يتبنى أن كل ما هو موجود هو فيزيائي (مادة، طاقة، أشعة، الخ..) فقط.
  2. (A Free Man’s Worship, 1903)