بعد أن تفحّصنا الأدلة المزعومة على مصداقية الفكر الإلحادي، وأجبنا عليها، حان الوقت للتعمق في نتائج هذا الفكر على حياة الإنسان، أي أننا سنناقش في المقالات القادمة موضوع ما بعد الإلحاد، أو ما بعد بعد الإلحاد! وسأبدأ بالتنويه الهام جدًّا، وهو أنني أناقش وأنتقد الفكر الإلحادي وليس شخص الملحد نفسه.
يا ترى، ما هي قيمة الحياة في نظر هذا الفكر الإلحادي المادي؟ ما هو الإنسان أصلا؟ إنّه مجرد ذرات مرتبة بطريقة لافتة للنظر، بحيث تسمح له بالبقاء والنمو لفترة معينة. ولكن، إن كان الانسان مجرد مادة، فما الفرق بين قيمة الشخص وهو حيّ، وقيمته بعد أن فارق الحياة بثوان؟ كلاهما مكوّن من نفس المواد تمامًا!
وصف أحدهم الانسان بأنّه ماكنة بيولوجية تعمل على الأوكسجين والطعام، بدل النفط والكهرباء. هل ذلك صحيح؟ هل نعامل بعضنا على هذا الأساس؟ من منا إذا تعطلت سيارته، يمكث معها بالكراج وتأتي كل العائلة للزيارة؟ وإذا فقد الميكانيكي الأمل منها، ينوح عليها، يعطل عمله ويقوم بمراسيم الجنازة والدفن وتلقي التعازي لأيام؟! معظمنا يبيع السيارة لدى أول عطل جدّي يصيبها، إذا تمكن من شراء غيرها، وكلي أمل ألا يبيع الإنسان أباه عندما يهرم.
لماذا لا يُعامَل الانسان كالحيوان؟ فذاك أيضا آلة، قد تكون أقل ذكاء، ولكن هل الذكاء يقرر القيمة؟ القرد البالغ أذكى من طفلة عمرها أربعة شهور، هل القرد ذات قيمة أغلى؟ في عصرنا هذا وفي الولايات المتحدة، من يفسد بيضة نسر (مهدّدة بالانقراض) يحاكَم بدفع مئات آلاف الدولارات والسجن. ومن الجهة الأخرى، تُموّل الحكومة (من أموال المواطنين دافعي الضرائب) قتل جنين في بطن أمه، إن أرادت الأم الإجهاض.
مهلًا، لماذا يُعتبر الموت أمرًا محزنًا؟ أهو شر؟ ولماذا القتل شر؟ فالقاتل بحسب المذهب المادي، يبعد بعض الخلايا عن بعضها، أو يعطل الماكينة عن العمل. لماذا يُقاضى القاتل ويُحبس؟ وهل من المفيد أصلا أن تقاضي آلةٌ آلةً أخرى وتسجنها؟ والسارق كذلك، فهو ينقل بعض الذرّات من مكان إلى آخر، فما الخطأ في ذلك؟ لن يسعني الوقت لاعطاء أمثلة على المغتصب، والكاذب، والمعذّب وغيرهم، ولكن أرجو أن تكون النقطة واضحة.
البعض ما زال متمسكًا بفحوى أغنية مسلسل الكارتون القديمة:
في الغابة قانون يسري في كل مكان، قانون أهمله البشر ونسوه الآن
إخلاص حب دافئ عيش فطري هانئ، لا ظلم و لا خوف و لا غدر و لا أحزان، ماوكلي
لكن أغلبنا تعدّى مرحلة الطفولة، وفهم أنه لا يوجد إخلاص، حب دافئ أو عيش هانئ بالغابة، بل إن البقاء للأفضل، والقوي يستغل ويقتل الضعيف، والأخير يُظلم، يخاف، يُغدر به، ولا يحزن فقط بل يموت.
إن كان القبر هو نهاية كل حي، فما الفرق إن عشنا حياة كهتلر أو كالقديسة الأم تريزا؟ فكما قال دوستويفسكي، إن كانت الأبدية غير موجودة، فكل الأشياء مباحة! وعندها يصدق الكاتب إين راند بمدحه للأنانية! لن يحاسبك أحد. فمن الغباء أن يعمل الشخص أي شيء آخر ليس لمصلحته الشخصية. عش فقط للذات، فالحياة أقصر من أن تضيعها في سبيل الغير. وكل تلك القيم كالتضحية وغيرها تصبح سخيفة.
قال بروفيسور الفلسفة الملحد كاي نيلسن “المنطق العملي ومعرفة جيدة للحقائق، لن توصلنا للقيم الأخلاقية”. وأيده جان بول سارتر بقوله: “لا قيمة لحقيقة الوجود العارية”. كل القيم الأخلاقية مبنية على قيمة الإنسان نفسه، ولكن ما هو مصدر هذه القيمة في الفكر الإلحادي، وعلى ماذا تتأسس؟ وهل من المنطقي أن نعيش في عالم لا قيمة له وللبشر؟
اعتقد الملحد أنه عندما ينفي وجود الله، سيتحرر من عبودية “الدين”. ولكنه اكتشف أنه عندما قتل الله، فهو قد يتّم نفسه، ودهن لوحة الحياة بالسواد الداكن. أظن أنّه من غير المعقول، بل من السخف عيش هذه الحياة بهذا الفكر.
مرة أخرى أكرر، حسب رأيي، جميع البشر هم ذوو قيمة عليا، إذ اؤمن أننا جميعا مخلوقين على صورة الله، وخاصة الملحدين. فمنهم أصدقاء أعزاء لي. هم أشخاص طيبون ويحبون الغير والمساعدة. أنا لا أشكك بذلك. الموضوع هو قيمة الإنسان في الفكر الإلحادي كفكر، وليس قيمته عند الشخص الملحد.
في المقالات القادمة سنتطرق لمواضيع أخرى في الإلحاد كمعنى الحياة ،الهدف وغيرها وبالنهاية سنختم بكيف يتعامل الملحد مع هذه المواضيع.