الإلحاد تحت المجهر – الارادة الحرة

الإلحاد تحت المجهر - حرية الاختيار

الإلحاد تحت المجهر – الارادة الحرة

كثيرا ما تغنت الشعوب بكلمات ابو قاسم الشابي الرائعة مرددةً: “اذا الشعبُ يوما اراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”. ويكمل شاعر الخضراء قصيدته بأُسلوب يُحفّز الانسان على التغيير واثقا أن لديه الارادة الحرة ويستطيع أن يكسر القيد ويطمح للحياة. لكني اتساءل ما هي هذه الحرية وكيف حصل البشر عليها؟ والسؤال الأهم هنا هو هل النظرة الالحادية المادية قادرة على تفسير هذه الارادة الحرة أم أن هنالك تناقض حاد بين الحرية والالحاد؟ واخيرا ما هي نتائج التخلي عن الحرية؟ هلم نفكر معا في هذه المواضيع المهمة.

ما هي الارادة الحرة ؟

كم كثرت المفاهيم للحرية وتضاربت في معانيها، فالبعض يربطها مثلا بالحرية السياسية ويقولون انه إن قمع الحاكمُ الشعبَ، فسيفقد الأخير حريته. لكن هل إن حكم طاغيةٌ البلادَ يعني أن الجميع فقدوا السيطرة تماما على التفكير بما يريدوه؟ واخرون يدعون أن الشخص حر في حال استطاع أن يحقق أحلامه. لكن إن فشل شخص بتحقيق حلم (مثلا بأن ينمي أجنحة ويطير كالنسور) فهل يعني هذا أنه ليس حُرّا؟ ألا يوجد فرق واضح بين قدرة الإنسان على الاختيار وبين قدرته على تحقيق ما اختاره؟
الارادة الحرّة التي اتكلم عنها هنا ليست بالضرورة حرية مطلقة، بل كما تُعرّف في موسوعة ستانفورد للفلسفة 1 على أنها القدرة على اختيار إمكانية واحدة، في حال تعدد الإمكانيات المُتاحة. الإنسان الحر هو من يقرر اتخاذ تلك الإمكانية التي يريدها (بدون اجبار) وبالتالي فهو مصدر هذا القرار الحر ومسؤول عنه، لأنه كان بإمكانه أن يختار غيرها، لكنه اختارها هي. مثلا، أمامي خيارين أساسيين عندما أُسأل عن سبب تأخيري للعمل، إما أن اقول الحقيقة أو أكذب. لكل قرار هنالك دوافعه ونتائجه، لكن في النهاية أنا من يقرر.

من أين ستأتي الارادة الحرة ؟

كيف حصل الإنسان على الحرية ومتى؟ وكيف تعمل؟ إن كان العالم مكوّن فقط من أشياء مادية كما يزعم الملحدون الماديّون، فإن الأشياء الماديّة ستُطيع حتما قوانين الفيزياء. الإنسان هو شيء مادّي أيضا وحتى دماغه، الذي يشبّهوه بحاسوب ذكي جدا يقوم باتخاذ قرارات، ماديّ بحت. في نهاية المطاف الدماغ أيضا خاضع للقوانين الفيزيائية ومسيّر بحسبها لا بل مُقيّد بها، فكيف للقيد أن ينكسر؟
بعض علماء فيزياء الكم (Quantum Mechanics) يعتقدون أن هناك نوع من العشوائية تحدث عندما ننظر عن قرب للجزيئات الصغيرة كالإلكترونات، وآخرون يعتمدون على هذه العشوائية ويعتقدون انها هي مصدر الحرية. ليس أنه لا يوجد أي دليل على مصداقية هذا الادعاء فحسب، بل انه أيضا سخيف. تخيّل أن هنالك حجر نرد في مخك وهو مصدر العشوائية، هل يستطيع ذلك تفسير حرية الاختيار؟ بالطبع لا! ستكون مجرد ضحية للحظ ولا سلطة لديك على اتخاذ أي قرار. بغض النظر عن إن كان هنالك عشوائية أم لا، ستبقى النظرة الإلحادية غير قادرة على تفسير حرية اختيار حقيقية، و “الاختيار” الوحيد أمام الملحد هو تبني النظرة الحتميّة والتي بحسبها لن يستجيب القدر.

تأثير الارادة الحرة

تخيل معي استقبال رسائل يومية على هاتفك من رقم هاتف حبيبتك. كل يوم تكتب لك بأعذب الكلمات والاشعار مقتبسة اقوال أكثر الكُتّاب رومانسية. اليس هذا رائعا؟ ماذا لو عرفت ان حبيبتك استخدمت تطبيق على هاتفها الذكي مُبرمج ليبعث هذه الرسائل. كيف ستشعر عندها؟ بنظرة تعارض وجود حرية الاختيار، كل البشر مجرد تطبيقات مبرمجة، ولا توجد محبة حقيقية.
لا اعرف كيف اعبر اكثر عن مدى أهمية هذه النقطة وتأثير حرية الاختيار على حياة الإنسان. لربما من الافضل اعادة التفكير بالمواضيع التي سبق وكتبت عنها مثل معنى الحياة، قيمة الحياة وهدف الحياة مرة أخرى من منظور أن الإنسان مُسيّر وليس مُخيّر. ما هو المعنى من حياة آلة مجبرة على أن تعمل ما تعمله منتظرة اليوم الذي به حتما ستتعطل وتُستبدل؟ ما هي قيمة حياة روبوت ذكي يقوم ببعض الخطوات ونهايته المحتومة هي أن يأكله الصدأ ويزول؟ ما الهدف من السعي والمثابرة في الحياة ما دام كل شيء مكتوب وانت لا تملك القدرة على التغيير؟ هل هذه هي حياة الانسان حقا؟

إلى أين؟

لن تكفي كتب كاملة لضم النتائج السلبية التي تنبع عن التخلي عن حرية الاختيار. فكروا معي بشخص مجرم مُغتصِب. لماذا نلومه أو نعاقبه؟ فهو مجرد جهاز مُعقد قام بطاعة قوانين فيزيائية! كل مفهومنا عن قيمنا وواجباتنا الأخلاقية ستنقلب رأسا على عقب، وهذه فقط بداية المشاكل الوجودية التي سنواجهها. ليس ذلك فقط الا اني ادعي، وبكل جرأة، أن الحتمية (ضعيفة كانت أم قوية) تُشكك في عقلانية الانسان، اذ انه ان كانت قناعات الانسان محتومة هي الاخرى، فكيف تفرّق بين القناعات الحقيقية والوهمية؟ ساقوم بالتوسع بهذه الفكرة (الالحاد والعقلانية) في المقال القادم، لكن ما اريد أن انهي به هو أنه إن كنت تؤمن أنك حرّ حقا، فاعلم ان الالحاد عاجز عن تفسير، لا بل يناقض وجود ارادتك الحرّة، ولذلك من غير المنطقي أن تتبنى نظرة الحادية وارادة حرة بنفس الوقت.

بقلم: جورج عبده

المراجع

  1. رابط للمقالة بموقع موسوعة ستانفورد للفلسفة