كفى للكوارث – ما وراء صرخات القلب

كفى للكوارث - ما وراء  صرخات قلب
كفى للكوارث – ما وراء صرخات قلب

نعيش فترة غريبة للغاية، تعلو فيها صرخات القلب ، فبعد أن تعوّدنا على وباء الكورونا ورضينا بحالنا، إلّا أن الواقع لم يرضى بنا وما زال يقذف نحونا المأساة تلوى الأخرى من تزعزع سياسي، جرائم، غرق، نزاعات اجتماعية، أقليات مظلومة وإلى انفجار لبناني مهول.

غرابة الأمر

لكن الغرابة في الأمر لا تقف عند عدد المصائب ولا عند قبحها، بل في عصر التواصل الاجتماعي نسمع صرخات قلب الإنسان ببث حي ومباشر بعد كل فاجعة وبكل وضوح ومن شتى أنحاء الأرض. في أعماق الإنسان هناك خيبة أمل من الواقع وكأن كياننا الداخلي يعترض على ما يراه في الخارج ويصرخ: كفى! هذا ظلم! لا نريد المزيد من المِحَن. لا يجب أن تكون الأمور هكذا. ليس من المفروض أن نعاني بهذا الشكل. هناك شيء غير صحيح! نطالب في التغيير إلى الأفضل.

قد نتساءل ما الغريب بهذه الصرخات؟ إذ أنها تبدو طبيعية وإنسانيّة للأغلب، لكن ما أدعيه هو أنها قد تكون أسمى من الطبيعة ولربما من الإنسان نفسه، أي أن في داخل هذه الصرخات ما قد يدل على ما هو فوق طبيعي. فكّروا معي بهذه الصرخات، لمن هي موجّهة وعن ماذا تُعبّر؟

النظرة من الطبيعة

إن كانت الطبيعة هي كل ما هو موجود ولا وجود لأي شيء فوق طبيعي، فهل تكترث الطبيعة لصرخاتنا؟ هل تسمعنا الأشجار وتواسينا البحار؟ هل لدى الجبال حل؟ هل نحن من نقرر كيف “يجب أن تكون الأمور” في قوانين الفيزياء، أو عدد الذرات “المفروض” أن يكون في الوجود؟ هل تظلم تفاعلات الكيمياء في بيروت أحدا؟ هل تحدد الشمس “الأفضل” لنا؟ كلا. الطبيعة صمّاء، لا تسمع، لا تخطط، لا تفكّر ولا تشعر. لا يوجد أفضل أو أسوأ، بل هي ما هي عليه. قد يحاول الإنسان التأثير على الطبيعة، وقد ينجح بفترة معيّنة، إلّا أنه جزء منها وخسارته النهائية محتومة بموت الشمس، وكل حيّ على الأرض، لتصبح وإن بقيت أصلا، كوكبا مقفرا مثله مثل مليارات الكواكب الأخرى في الكون.

في هذه النظرة الطبيعية القاتمة، ما هي صرخات القلب هذه سوا أمنيات خيالية؟ مِن مَن خاب أملنا بالضبط؟ الأمل بماذا؟ ما هو مصدر هذا الأمل؟ هذه الأمنيات وهذا الأمل مجرد أوهام صدّقها العقل البشري إذ يبدو أنها تساعده على البقاء (مؤقتا). إنها لا تُشير إلى أي شيء حقيقي. نعم، صرخات أغلب سُكّان الأرض ما هي إلّا أفيون يتعلق به هذا الكائن الضعيف لكي يضيف على عمره بضع سنوات ثم يواجه شبح الموت وحيدا. لنتذكر أنه في هذه النظرة الطبيعيّة العدميّة، الموت أمر طبيعي مثله مثل تدحرج حجر عن جبل، فلماذا نحزن؟ والظلم أمر شخصي ليس سوا مصطلح نستخدمه لوصف ما يدور في عقولنا لكنه غير موجود موضوعيا في الواقع.

النظرة من ما فوق الطبيعة

لكن، لسنا مجبرين على تبنّي هذا الفكر الكئيب. ماذا لو كان هناك أمل حقيقي وكانت هذه الصرخات تؤشر إليه؟ ماذا لو كان هنالك خطة و”الأفضل” حقا موجود؟ ماذا لو كان العدل والظلم، الخير والشر أمور موضوعيّة موجودة بالحقيقة؟ عندها مصدر الأمل لا بد أن يأتي مما هو فوق الطبيعة، كائن متسامي عاقل خطط للخير الأفضل وزرع في قلوبنا هذا الشوق اليه. ليس مجرد شعور بل حدس وقوة وجوديّة قادرة على اكتشاف الخير الأفضل، الثقة من وجوده والعمل من أجل تحقيقه. ليس ذلك فقط بل التعرّف على هذا الكائن المتسامي، الله، الذي هو جوهره وأصل الخير والاستمتاع بعلاقة محبّة حقيقية معه.

أعلم أن، للبعض، هذا يثير الكثير من الاسئلة مثل: أين الله من الشر والظلم؟ ما هي الأدلة على وجوده أصلا؟ واسئلة أخرى كلها مثيرة للاهتمام وتكلمت عن الكثير منها سابقا، إلّا أن ما أريد الاشارة له هو أنه في المنظور الطبيعي تكون صرخات قلب الإنسان غريبة، وأما في المنظور فوق الطبيعي تكون طبيعيّة، حقيقيّة وتشير الى شيء موجود في الواقع وليس بوهم. الفيلسوف والرسول بولس وصفها بالأنين وقال أن الخليقة كلها تئن وتتمخض وتنتظر أن تُعتق من عبودية الفساد هذه (رومية 8). فكما أن المعاناة حقيقيّة، كذلك الرجاء أيضا، كما أن الشر حقيقي، كذلك الفداء وكما أن الفساد حقيقي، كذلك الخلاص.

بقلم جورج عبده

رابط لمصدر الصورة.